الاثار والمتاحفالتراث الماديتحقيق

آثار في الغُربة!

في بداية شهر يناير من العام السابق تم اكتشاف الدرع الذهبي للملك المعيني “وقة آل ريم” في محافظة الجوف ثم سافر هذا الدرع إلى صنعاء ليختفي بعد ذلك في المجهول ..

وفي الثالث من أكتوبر القادم في “تل أبيب” سُيقام هنالك مزادٌ يعرض فيه 15  قطعة من آثار اليمن منها خمس قطع من المرمر وعشر قطع برونزية؛ كتمثال لابن ملك قتبان “يدع أب غيلان”،  وتعوذية من الفضة والكثير من المجهول الذي لم يتم الإعلان عنه حتى الآن.

وفي آخر أيام شهر مايو من هذا العام في مزاد “دار ليون” في لندن تم بيع أربع تحف أثرية يمنية يقدر عمرها بآلاف السنين، وقبل ذلك بسبعة وستين يوما تم بيع تمثال وجه رجل يمني ذو 2200عام بقيمة 1400 جنيه استرليني فقط .. وكل هذا جزء من المخفي الذي لا نعرف عنه شيء؛ الذي وجدناه في صفحة الباحث اليمني المهتم بعلم الآثار  “عبدالله محسن” والذي تحدث إلى أوَم التراث قائلا: لا يمكنني الجزم بعدد الآثار اليمنية المهربة لعدم وجود إحصاءات رسمية ولعدم إمكانية ذلك كون عمليات التهريب سرية إلى حد ما، وما يظهر في الغالب هو القطع المعروضة في المزادات أو المتاحف أو في صفحات الترويج للقطع المهربة على منصات التواصل الاجتماعي.
لكن ما شاهدناه من قطع مهربة في المزادات والمنصات المتعددة أثناء فترة الحرب ربما يزيد عن عشرة آلاف قطعة أثرية..
وإضافة إلى ما قاله لنا محسن، ففي عام 2018م كشف الباحث الأمريكي “ألكسندر ناجيل” أن عد القطع الأثرية المهربة من اليمن بلغت مليون قطعة أثرية فماذا عن الآن؟!

اليمن أقدم الحضارات البشرية!!

لا نريد لحضارتنا الظهور على حساب أي حضارات أخرى، ولا نزعم أننا الأقدم والأعرق وأننا الأصل الذي ولدت منه جميع الحضارات البشرية؛ ولكننا ندعوا إلى عدم تغييب تاريخنا المجيد الذي لا ينكره عاقل، ولا يجحده إلا كارهًا “للأرض المقدسة” كما أسماها قدماء المصريين !.
وحضارتنا يشهد لها الغريب قبل القريب فمثلا يقول عنها المستشرق والباحث الأثري “ساني”: إن اليمن سابقة في تمدنها على مصر وبابل، وهي البلاد التي هاجر منها إلى مصر الفراعنة العظام وحملوا معهم العلم والحكمة والزراعة ومنها كان على الراجح اسلاف البابليين والآشوريين الذين حملوا في هجرتهم إلى تلك البلاد ما حملوا إلى مصر من العلم والصناعة؛؛
ونحن بعيدا عن كل هذا كما أسلفنا لا نريد إلا الحقيقة التي تنصف يمننا السعيد الذي أنهكته تقلبات الظروف؛ وحتى إن لم نحظَ بها؛ فآثارنا العتيقةُ تشهد بهويتنا العظيمة، ولن نندثر ما دام هنالك معابدًا شامخة، وجسورا مُشيَّدة، وحصونا صامدة، وقلاعًا بارزة، وملوكا وجنودا أبى التأريخ إلا تجسيدهم تماثيلًا خالدة، والكثير منهم نحتوا هذا المجد العرِيق بدماء أظافرهم على الصخور، وخط المسنَّد الذي تستند عليه الحجار والجدران يشهد بذلك؛
ولم يتوقف أجدادنا عند هذا فقط؛ بل رفض البعض منهم أن يموت وأجساد المئات المحُنطَّةُ على هيئة مومياءات تشهد بذلك أيضا..

حضارة مهددة:

ولكن الخطر الأكبر الذي تتعرض له حضارتنا المقدسة هو تلاشي هذه الآثار التي تحمل في روحها هوية أجيالٍ قادمة؛ وهذه الكارثة تحدثُ الآن من خلال: انتشار ظاهرة التهريب إلى خارج الوطن، وإهمال ما تبقى منها بعدم توفير الرعاية الكافية لها ..
وظاهرة التهريب -التي تُعَدُّ انتهاكا واضحا لقداسة التراث اليمني الذي يُمثل المعنى الأول للهوية الوطنية- قائمة منذ عشرات السنين لكنها تفاقمت كثيرا في الآونة الأخيرة وهذا  يرجع لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها غياب دور الدولة وتوانيها عن أداء مهمتها في حماية التراث، ولا سيما الجهات المختصة في الداخل والخارج، ومن مظاهر هذا التواني والقصور هو عدم توثيق وتسجيل وأرشفة القطع الأثرية؛ فوفقا لما أدلى به وزير الثقافة “عبدالله الكبسي”  قبل عامين لوكالة سبأ هو أن هنالك جهودا مبذولة لاستكمال ترقيم الآثار البالغ عددها 140 ألف قطعة أثرية، لم يتم ترقيم سوى 40 ألف قطعة منها فقط .. مؤكداً أهمية الفهرسة والرقم الوطني والبطاقة التعريفية للآثار اليمنية..


وفي محاولة منا لكشف الدور الذي تقوم به مؤسساتنا الحكومية للحد من ظاهرة التهريب قام فريق “أوَم التراث” بالتسلل إلى مجموعة قامت بشراء كمية من الكتب التراثية الموثقة بختم وزارة الثقافة والتي تم تسريبها من الوزارة وعرضها للبيع بشكل سري في إحدى بسطات التحرير للكتب، ثم قاموا بإرسال مجموعة منها عبر شركات الشحن وسائقي السيارات إلى خارج حدود الوطن؛ وبعد مرور أسبوعين قام جهاز الأمن والمخابرات بضبط مجموعة الكتب التي تم ارسالها عبر شركات الشحن، وبعد مرور شهر  قام مسؤولو النقاط والتفتيش في المناطق الحدودية التابعة للمملكة العربية السعودية بضبط المجموعة الأخرى التي تم ارسالها عبر سائق السيارة ومصادرتها كما أفاد سائق السيارة ..
بعذ ذلك تم استدعاء المجموعة من قِبل جهاز الأمن والمخابرات وأثناء ذلك قام الجهاز بالاتصال بوزارة الثقافة لمُساءلتهم حول كيفية تسرب هذه الكتب من الوزارة؛ لتقوم وزارة الثقافة بسحب القضية من منظمة الاستخبارات إليها ومواصلة التحقيق بشأن ذلك…
بعد ذلك قامت الوزارة باستدعاء المُشتبه بهم وتم فتح ملف التحقيق الذي استمر لأكثر من شهر..
أوضح “س ظ” أنه لم يكن على معرفة بأن الكتب تابعة للوزارة كونه اشتراها من إحدى بسطات الكتب في شارع التحرير ولم يطَّلِع على الختم المتواجد عليها، وبعد الكثير من الأخذ والرد صرَّح عن المصدر الذي تم شراء الكُتب منه ليتم استدعاءه أيضا بعد القيام بما يجب من التحري بشأن ذلك.
لكن صاحب المكتبة أنكر عملية البيع بشكل قطعي؛ ليتم استدعاء المشتري والشهود والبائع بعد ذلك والتحقيق مع كلا منهم بشكل مستقل -بعد أداء قسَم اليمين- لكن إصرار البائع تجاوز اليمين وأنكر معرفته بالشهود وكاد ينكر معرفته بالمشتري أيضا لولا وجود رسائل نصية واتصالات توثق عملية البيع والشراء والتعامل الجاري بينهم على مدى شهور؛
وما زال ملف التحقيق ساريا إلى الآن ولم يغلق بعد، وهذه بعض الوثائق التي توصلنا إليها:

صورة توضح خلاصة ما توصل إليه التحقيق
صورة توضح التزام وتعهد من قام بشراء الكُتب

ومن خلال ما حدث نشيد بجهاز الأمن والاستخبارات الدور الذي يقوم به للحد من هذه الظاهرة، ونضع بعض اللوم على وزارة الثقافة مع شُكرها على بعض ما تقوم به أيضا..

وفي مقابلتنا مع مدير عام الشؤون القانونية لوزارة الثقافة “عبدالواسع سنان” أكَّد لنا قائلا: إن الوزارة تقوم بكل ما يجب عليها للحفاظ على موروثنا الشعبي، وصحيح أن هنالك بعض القصور ولكننا نسعى لتلافي هذا الأمر بما نستطيع أن نفعل مع الإشارة أن جهودنا وحدها لا تكفي ونحن بحاجة إلى مساندة الأجهزة الحكومية وأيضا مساندة المواطن..

الحفاظ على تراث الأجداد مسؤولية الأحفاد

إن مسؤولية الحفاظ على تراث الوطن سواء كان ماديا أو معنويا لا يقتصر على الجهات الحكومية المعنية بذلك فقط؛ وإنما هو مسؤولية عامة وواجبٌ جماعي يقع على عاتق الشعوب بالدرجة الأولى؛ لأن الحكومات تتغير والشعوب ثابتة وهذا التراث يُعبر عن هوية شعبٍ بأكمله؛ ولكن القصور الذي نشاهده في مجتمعنا ناتجا عن قلة الوعي بأهمية التراث؛ ومن هنا يأتي واجب الجهات الإعلامية والنخب الثقافية بتوعية المجتمع بمدى أهمية التراث، وفي سؤالنا ل مُحسن أكد لنا قائلا “يجب عليهم توعية المواطنين بأهمية الحفاظ على الآثار ومكافحة تهريبها في مناطقهم ، والضغط على الحكومة وأجهزتها للقيام  بما يجب عليها”.

آثار مدفونة:

ولكن الحقيقة الثابتة التي لا يعلمها الناهبين لآثارنا الخالدة أن مملكة سبأ ومعين وحمير لن تختفي، ولن يُنسى  التُبَّع اليماني ذُمار وأسعد ومعد يكرب وكل التبابعة؛ ما دام هنالك ذرة تراب واحدة تشهد على هذا المجد!!
والحقيقة الثابتة أن من سيختفي هو نحن، هذا إن لم نكن نقطة سوداء أو درجة منكسرة ملطخة بالأسود على سُلَّم اليمن الكبير؛ إن لم نقم بما يجِب علينا للمحافظة على حضارتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *